المادة    
الحمد الله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد:
أيها الإخوة والأخوات! وفقني الله وإياكم لما يحب ويرضى؛ إنه على كل شيء قدير.
كنا بفضل الله تعالى وتوفيقه قد تكلمنا في اللقاء الماضي ضمن سيرة إبراهيم الخليل عليه السلام عما آتاه الله تبارك وتعالى لهذا النبي العظيم الجليل من الحكمة والعقل, والهداية والفطرة القويمة, ثم بعد ذلك الرتبة العالية التي لا رتبة فوقها, وهي: أن يكون إماماً للناس، وبالمقارنة -كعادتنا- في المنهج قارنا بين ذلك على سبيل الإجمال في القرآن, وبين ما جاء في الكتب المحرفة؛ كما هو في سفر التكوين وشروحه التي تحدثت عن هذا النبي العظيم صلوات الله وسلامه عليه وعلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وسائر أنبياء الله تبارك وتعالى أجمعين.
وقف بنا الحديث عند قضية مهمة؛ وهي العلاقة بين إبراهيم عليه السلام, وبين ملكي صادق الذي تحدث عنه سفر التكوين بالذات, وكذلك جاء ذكره في المزامير كما جاء في رسالة بولس .
المقصود أن هذا الكاهن أو هذا الملك أو من كان - ملكي صادق - الذي قلنا: إنه ليس هو حمورابي , ولا أمرافل كما هو الظاهر والأرجح؛ لكن أيضاً لا يهمنا أن نقول: إنه شخصية غير حقيقة وغير موجودة؛ فلا يهمنا ذلك في شيء، الذي يهم في الحقيقة هو أن أهل الكتاب أخطئوا خطأ بيناً ظاهراً يجعلنا ننفي أي علاقة أو أي صلة بينه وبين إبراهيم الخليل؛ وبالذات أن يكون أفضل من إبراهيم الخليل عليه السلام، وحقيقة أن هناك تناقضاً بيناً في دعوى أهل الكتاب -من اليهود و النصارى- في العلاقة بين إبراهيم عليه السلام وبين ملكي صادق لا تزال في تقديري وفي نظري محل تساؤل: ما الذي يدفع هؤلاء القوم إلى افتراض هذه الشخصية؟! وأن تكون أفضل من الخليل عليه السلام؟!
وقلنا بالنسبة لليهود أن القضية المهمة عندهم هي: إثبات الميراث وأرض الوعد؛ فلذلك عندما لا تُذكر نبوة إبراهيم الخليل, ولا يشار إلى إرساله إلى قومه, ولا إلى نذارته, ولا إلى محاولة إحراقه بالنار ثم إنجاء الله تبارك وتعالى له, ولا أمر من هذه الأمور العظيمة الجليلة؛ وإنما يكون التركيز على الميراث وعلى الوعد فهذا يفسر لنا ذلك، على أن هاهنا لفتة عجيبة؛ وهو أنهم يقولون: إن ملكي صادق هو من ملوك أرض كنعان, وأنه كان في تلك الأرض ساكناً لها قبل إبراهيم عليه السلام، ولما جاء إبراهيم عليه السلام قابله على أنه كاهن لله العلي, وأنه أعلى منه رتبة, كما سنقرأ إن شاء الله الآن.
فإذا كان الأمر كذلك فإن هناك ملفتاً عجيباً؛ وهو كيف غاب عن ذهنكم أنه قد يأتي من المتعصبين للعرب -وهذا موجود عند القوميين العرب, وقد حدث ذلك ممن يكتب كتابة قومية, ونحن نرفض العنصرية والقومية عربية كانت أو إسرائيلية- ويقول: إذاً: فالجنس العربي أسمى, والجنس العربي أقدم, والجنس العربي أعلى! وهذا أمر يخل بالنبوة ومقام إبراهيم الخليل, وفي الوقت ذاته يخل بالغرض التاريخي أو السياسي؛ الغرض من تسييس التاريخ في القديم وفي الحديث لخدمة الوعد والميراث اليهودي أو الإسرائيلي لأرض الميعاد.
على أية حال هذا أمر يؤكد أن المنهج الحق والمنهج الوسط هو: منهج الوحي المحفوظ المعصوم, وهو الذي ينبغي أن يُعتمد في قصة الخليل عليه السلام, بالنسبة لهؤلاء, وبالنسبة للنصارى سوف نقرأ أيضاً ما هو أعجب من ذلك.